الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والونى في اللغة: الضعف، والفتور، والكلال والإعياء، ومنه قول امرئ القيس في معلقته: وقول العجاج: فقوله: {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي لا تضعفا ولا تفترا في ذكري. وقد أثنى الله على من يذكره في جميع حالاته في قوله: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وعلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، وأمر بذكر الله عند لقاء العدو في قوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيرًا} [الأنفال: 45] كما تقدم إيضاحه.وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية الكريمة: والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله في حال مواجهة فرعون. ليكون ذكر الله عونًا لهما عليه، وقوة لهما وسلطانًا كاسرًا له، كما جاء في الحديث: «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مُناجز قِرْنه». اهـ منه.وقال بعض أهل العلم: {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} لا تزالا في ذكري. واستشهد لذلك بقول طرفة: أي لا تزال تغلي. ومعناه راجع إلى ما ذكرنا. والعلم عند الله تعالى.{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}.أمر الله جل وعلا نبيه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يقولا لفرعون في حال تبليغ رسالة الله إليه «قَوْلًا لَيِّنًا» أي كلامًا لطيفًا سهلًا رقيقًا، ليس فيه ما يغضب وينفر. وقد بين جل وعلا المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} [النازعات: 17-19] وهذا والله غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى. وما أمر به موسى وهارون في هذه الآية الكريمة أشار له تعالى في غير هذا الموضع، كقوله: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].مسألة:يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرِّفق واللَّين. لا بالقسوة والشدة والعنف. كما بيناه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] الآية.وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال يزيد الرقاشي عند قوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا}: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكشف بمن يتولاه ويناديه؟ اهـ ولقد صدق من قال: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} قد قدمنا قول بعض العلماء: إن لَعَلَّ في القرآن بمعنى التعليل، إلا التي في سورة الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] فهي بمعنى كأنكم. وقد قدمنا أيضًا أن لعل تأتي في العربية للتعليل. ومنه قوله: فقوله: لعلنا نكف أي لأجل أن نكف.وقال بعض أهل العلم: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} معناه على رجائكما وطمعكما، فالترجي والتوقع المدلول عليه بلعل راجع إلى جهة البشر. وعزا القرطبي هذا القول لكبراء النحويين كسيبويه وغيره.{فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)}.ألف الاثنين في قوله: {فَأتياه} راجعة إلى موسى وهارون. والهاء راجعة إلى فرعون. أي فأتيا فرعون {فقولا} له: {إنا رسولان إليك من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل} أي خل عنهم وأطلقهم لنا يذهبون معنا حيث شاؤوا، ولا تعذبهم.العذاب الذي نهى الله فرعون أن يفعله ببني إسرائيل: هو المذكور في سورة البقرة في قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، وفي سورة إبراهيم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [ابراهيم: 6] الآية، وفي سورة الأعراف في قوله تعالى: {وَإِذ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [الأعراف: 141] الآية. وفي سورة الدخان في قوله: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ المسرفين} [الدخان: 30-31] وفي سورة الشعراء في قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا على أن عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] الآية.وما أمر به الله موسى وهارون في آية طه هذه من أنهما يقولان لفرعون إنهما رسولا ربه إليه، وأنه يأمره بإرسال بني إسرائيل ولا يعذبهم أشار إليه تعالى في غير هذا الموضع، كقوله في سورة الشعراء: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 16-17].تنبيه:فإن قيل، ما وجه الإفراد في قوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} في الشعراء؟ مع أنهما رسولان؟ كما جاء الرسول مثنى في طه فما وجه التثنية في طه والإفراد في الشعراء، وكل واحد من اللفظين: المثنى والمفرد يراد به موسى وهارون؟فالذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن لفظ الرسول أصله مصدر وصف به، والمصدر إذا وصف به ذكر وأفرد كما قدمنا مرارًا. فالإفراد في الشعراء نظرًا إلى أن أصل الرسول مصدر. والتثنية في طه اعتدادًا بالوصفية العارضة وإعراضًا عن الأصل، ولهذا يجمع الرسول اعتدادًا بوصفيته العارضة، ويفرد مرادًا به الجمع نظرًا إلى أن أصله مصدر. ومثال جمعه قوله تعالى: {تِلْكَ الرسل} [البقرة: 253] الآية، وأمثالها في القرآن. ومثال إفراده مرادًا به الجمع قول أبي ذؤيب الهذلي: ومن إطلاق الرسول مرادًا به المصدر على الأصل قوله: أي برسالة. وقول الآخر: يعني أبلغهم رسالة.وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} يراد به جنس الآية الصادق بالعصا واليد وغيرهما. لدلالة آيات آخر على ذلك.وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} يدخل فيه السلام على فرعون إن اتبع الهدى. ويفهم من الآية: أن من لم يتبع الهدى لا سلام عليه، وهو كذلك. ولذا كان في أول الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام» إلى آخر كتابه صلى الله عليه وسلم.{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)}.ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن موسى وهارون. أن الله أوحى إليهما أن العذاب على من كذب وتولى أشير إلى نحوه في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى. كقوله: {فَأَمَّا مَن طغى وَآثَرَ الحياة الدنيا فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} [النازعات: 37-39]، وقوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تلظى لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى} [الليل: 14_16]. وقوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ولكن كَذَّبَ وتولى ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى أولى لَكَ فأولى ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 31-35] إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.
واللين من شعار الدعوة إلى الحق، قال تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] وقال: {فبما رحمة من الله لِنتَ لهم} [آل عمران: 159].ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تَزّكّى وأهديَك إلى ربك فتخشى} [النازعات: 18، 19] وقوله: {والسلام على من اتبّع الهدى} [الكهف: 47]، إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى.فإذا لم ينفع اللين مع المدعوّ وأعرض واستكبر جاز في موعظته الإغلاظ معه، قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى عن موسى: {إنّا قد أوحي إلينا أن العَذاب على من كذّب وتولّى} [طه: 48].والتّرجي المستفاد من لعلّ إما تمثيل لشأن الله في دعوة فرعون بشأن الراجي، وإما أن يكون إعلامًا لموسى وفرعون بأن يرجوَا ذلك، فكان النطق بحرف الترجي على لسانهما، كما تقول للشخص إذا أشرت عليه بشيء: فلعلّه يصادفك تيْسير، وأنت لا تريد أنّك ترجو ذلك ولكن بطلب رجاء من المخاطب.
|